الحج الأول- لقمة أرز بارد ودرس لا يُنسى

المؤلف: خالد السليمان09.09.2025
الحج الأول- لقمة أرز بارد ودرس لا يُنسى

مع تدفق أخبار الحج المبارك، استحضرت ذاكرتي بكل تفاصيلها الدقيقة رحلة حجتي الأولى، التي كانت في ريعان شبابي، عندما كنت في السادسة عشرة من العمر، بصحبة ثلة من زملائي الأعزاء في المدرسة ضمن قافلة خاصة منظمة قادمة من دولة الكويت، حيث كنت أواصل دراستي. كانت رحلة مضنية وشاقة، استغرقت ما يزيد عن ست عشرة ساعة متواصلة دون توقف يُذكر، باستثناء وقفات يسيرة للتزود بالوقود اللازم. خلال هذه الرحلة الطويلة، انتابني جوع مبرح وشديد، وكان الأمل يحدوني في وجبة شهية ودسمة عند الوصول إلى وجهتنا، كما وعدنا المشرفون المرافقون لنا، الذين كانوا يكبروننا سناً وخبرة. ولكن، عند وصولنا إلى المخيم المنشود، تبين لنا بكل أسف أن مضيفينا الكرام قد استبقونا بتناول طعامهم الشهي، ولم يضعوا في حسبانهم وجودنا وحاجتنا للطعام، ولم يتبق لنا سوى كمية ضئيلة وشحيحة من المؤن. وما زلت أتذكر حتى يومنا هذا أن نصيبي من ذلك الطعام الشحيح كان مجرد لقمة يتيمة من أرز بارد المذاق!

بعد أن استقرينا أخيراً في المخيم المتواضع، تجولت في الممرات الضيقة الفاصلة بين الخيام المتراصة، لأجد العشرات من الخيام الخاصة قد نصبت فيها قدور الأرز البخاري الضخمة، التي كانت تعرض وجباتها الشهية للبيع على الحجاج الميامين. كانت الرائحة المنبعثة من تلك القدور آسرة وجذابة، والجوع يعتصر أحشائي بقوة، لكن شعوراً غريباً ومفاجئاً بالخجل والتردد انتابني فجأة، ومنعني من شراء وجبة دسمة في الوقت الذي كان فيه زملائي الأعزاء يعانون من الجوع الشديد. لا أعلم على وجه التحديد لماذا انتابني هذا الشعور الغريب، ولماذا حرمت نفسي من إشباع جوعي المتأجج، وما هو الخطأ الفادح الذي كنت سأرتكبه لو أنني انقضضت بلهفة على طبق من ذلك الأرز الشهي، الذي تتصدره قطعة دجاج محمر تسر الناظرين. وعندما أتذكر ذلك الموقف السخيف والمضحك في الوقت نفسه، أتساءل عما إذا كان هؤلاء الزملاء الكرام قد كبحوا جماح شعور جوعهم مثلي، أم أنهم ملأوا بطونهم عن آخرها كما يجب أن يفعل أي إنسان جائع!

في غضون تلك الرحلة المباركة، تلقيت صدمتي الأولى من المناوشات والمشاجرات الكلامية التي كانت تندلع بين بعض الحجاج الميامين أثناء التدافع والازدحام. وكم سمعت عبارة «حج يا حاج» تتردد على الألسنة للتفريق بين المتخاصمين والمتشاجرين. ففي خيالي، كنت أتخيل أنني ذاهب إلى تظاهرة إيمانية عظيمة، تصفو فيها القلوب والنفوس، ويتحول فيها العباد إلى ملائكة تمشي على الأرض بكل سلام ووئام. لكن الحقيقة المرة كانت أن العديد من الحجاج كانوا أشبه بأعواد الثقاب سريعة الاشتعال، المستعدة للانفجار عند أقل احتكاك أو خلاف!

وعلى الرغم من كل هذه المنغصات والتحديات، إلا أنها كانت تجربة ممتعة ومسلية لشخص في مثل عمري، حيث كانت تغلب عليه روح الاستكشاف والمغامرة والبحث عن الجديد. ولكنني عند العودة إلى دياري، لم أعتبر تلك الحجة مثالية ومكتملة الأركان، وعقدت العزم على أداء حجة أخرى بعد مرور خمسة عشر عاماً، وكانت الأجواء حينها مختلفة تماماً، حيث تم منع الخيام التقليدية، واختفت قدور البخاري الضخمة، وحلت محلها مخيمات الحملات المرخصة، التي تميزت بمطابخها الخاصة وبوفيهاتها المتنوعة. ولكن شيئاً واحداً لم يتغير على الإطلاق، وهو سرعة اشتعال أعواد الكبريت البشرية، واستعدادها الدائم للخلاف والنزاع!

باختصار شديد.. على الرغم من المشقة والتعب، تبقى تجربة الحج ذكرى لا تُنسى وخالدة في حياة كل مسلم، وتبقى رائحة ذلك «البخاري» الشهي، الذي حرمت نفسي من تذوقه، عالقة في ذهني وذاكرتي حتى يومنا هذا!

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة